الصحافة العمومية المكتوبة، هذا الصداع الكبير، والورم المتمدد.. في كل مرة يعلن في السرايا، عن نّية الوصاية المتمثلة في رئاسة الحكومة، وكذا وزارة الإعلام، عن إجراء تشخيص دوري، وهيكلة جديدة... وتعديل زحف الورم نحو الأفضل..
أول مرة تم فيها إعادة هيكلة تسيير الإعلام العمومي، بداية التسعينات حين أتى المرسوم التنفيذي رقم 242/90 المتعلق بحل المؤسسات الإعلامية العمومية، والتي جردها من المطابع وجعلها أرامل تتسول، وتتوسل من يطبعها!! ثم أعيد هيكلتها مع حل كثير من المؤسسات الاقتصادية سنة 1997، وتحويلها كشركات مساهمة حيث سّرح كثير من إطاراتها وعمالها، وأصبحت صحف تطبع ولا تقـرأ، ومند نحو سنة صرح وزير الإعلام السابق حميد قرين، أنه سيتم جمع ست صحف وطنية عمومية، ضمن مجمع إعلامي واحد، يشرف عليه مدير عام وحيد، ومديرون تنفيذيون لليوميات الحكومية، ويتعلق الأمر بكل من “المجاهد”، “الشعب”، “المساء”، “أوريزون”، “الجمهورية” و”النصر”.
حسب بيان لوزارة الاتصال صدر في 10/04/2017، فإنه يمكن للجرائد المعنية أن تجتمع حسب اللغة، وعدة مصادر أوردت الخبر في الحين، من غير المستبعد تحويل اليوميات إلى أسبوعيات، وتسعى عملية إعادة تنظيم الجرائد العمومية، التي أقرها مجلس مساهمات الدولة إلى مواجهة الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها هذه المؤسسات، وكذا تقهقر وسائل الإعلام العمومية التي تعاني من “عزوف القراء”..
فهل بعد ”إعادة هيكلة الهيكلة… التي عرفتها الصحف العمومية المعربة (الشعب، النصر، الجمهورية، المساء)، بداية ومنتصف التسعينيات، وتركها عمدا جثثا محنطة، أو في أحسن الأحوال رجلا عليلا لا يقوى على التفاعل مع الحياة الإعلامية، كان يمكن لكاتب ووزير فاشل لا يقوى إلا على رواية “الخرافات”، كما جعلت منه صحف التغريب يوما… أن يعيد رونق الصحافة العمومية إلى سابق عهدها… لو كتب له البقاء في منصبه السامي…؟!
الولادة العسيرة … والطموح المجهض!
ولدت الصحافة العمومية المعربة في الجزائر غداة الاستقلال، في ظروف تفيض كراهية، وعدوانية ضد كل ما هو عربي، التيار الماركسي سيطر على وسائل الإعلام المفرنسة (الثورة الإفريقية، الجزائر الأحداث، المجاهد…) وأخذ يخطط ويزرع أفكاره الهدامة، في حقول الفكر والثقافة والاجتماع، وعلى كل مستويات المعرفة، والمسؤولين الماسكين بزمام السلطة، سايرو التيار حيث السباحة ضمن موجة المد القومي العربي اليساري…
من هنا ولدت ”الشعب” كأول صحيفة معربة في 1962، ظلت الصحيفة عشر سنوات كما يقول الصحفي الهادي يخلف ”مجرد أوراق وفقط، حتى أن الوصي عنها فعليا، هو مدير صحيفة المجاهد المفرنسة، ومسيرها لا حول ولا قوة لهم، لم تعرف الانطلاقة الحقيقية إلا مع مجيئ عيسى مسعودي 1970”، والتحاق كوكبة من المثقفين المعربين، وما هي إلا سنوات حتى أصبحت الشعب بمضامينها وملحقها الثقافي، وكتابها أبو القسم سعد الله، ركيبي… إلى نهاية الثمانينات قلعة الدفاع عن لغة الضاد (بصرف النظر عن انها الناطق بلسان الحكومة فجبهة التحرير فيما بعد).
تأخر أيضا تعريب النصر إلى سنة 1970، والجمهورية بوهران إلى 1976، وكلا الصحيفتين في الشرق والغرب على التوالي، شهدتا صراعات داخلية بين من أجل الانعتاق من عقارب التيار التغريبي، الذي توغل في الصحيفتين، ورفضا تسليمهم طوعا أو كرها، لقلعة التعريب… وتم الأمـر، وتنفست الصحيفتان بريق الحياة، مع بداية الثمانينات أصبحت الصحيفتان بالقوة الفكرية والمعرفية والإعلامية بمكان، والجمهورية في هذا الباب حققت الرهان وكانت الجواد ”الغربي” الأصيل، الذي دافع وناكف وكافح عن الثوابت الوطنية في الجزائر، رغم أن تعريب اليوميتين حرم ”الشعب” وهي في أوج انطلاقتها من التواجد في الشرق والغرب بقرار وزاري، بزعم تمكين النصر والجمهورية اكتساب قاعدة جماهيرية!! واستفادة المجاهد من الوضعية فتوسع انتشارها…
صحيح أن هذه الصحف، ظلت لسنوات تخدم الحكومات المتعاقبة، كل حسب سياساتها ورؤيتها، تطـبل أحيانا وتزمر أحيانا أخرى، وباركت للنظام مشاريع وأطروحاته، على الصفحة الأولى.. لكنها احتفظت على فترات ومثلت جناح يقود الصراع الفكري ضد النخب المتغربة والتيار الفرنكفوني… والثابت أن الصحف الثلاثة خلال الثمانينات كانت صحف رائدة مضمونا وإخراجا ( بعد استقدام مطابع الأوفيست ) مقروؤية وسحبا، قبل أن تقفز اليد الشيطانية، لتفعل فعلتها في جسد الإعلام العمومي فتجعل منه جثثا محنطة، بدعوة الانفتاح الذي مكن التغريبيين بداعي الاستقلالية، وحرية التعبير صناعة الرأي العام…
لقد كان الإعلام العمومي وبالأخص المعرب، يحوز الإمكانيات كما ذكرنا التي تجعله متألقا، الإرادة ودعم الجهود فقط كانت تجعل مثلا من ”الشعب” بضع سنين تحاكي الأهرام أو لوموند أو التايم.. ونسجل هنا شهادة أحد أبناء الصحيفة الإعلامي العربي بوينون “كان هناك ثراء لغوي بين الإعلاميين داخل أسرة الشعب، وأذكر أن مصلحة التلكس، إذ كان للجريدة اشتراك في عدد من الوكالات العالمية، اسوشيتد برس، سنا، وفا، تاس وغيرها… ورغم الإمكانيات البسيطة ونقص الخبرات، وكبر التحديات، كانت الصحف العمومية رائدة من ناحية نقل المعلومات، والحقائق، ونشر المقالات الهادفة لكبار الكتاب خاصة الشعب..) الشعب 10/12/2017.
كما يعلق الإعلامي بن عياد بومدين في ذكرى تأسيس يومية الشعب، ونائب رئيس تحرير الجمهورية الصادرة في الغرب الجزائري بقوله (… لولا الشعب لمُحي الحرف العربي من وسائل الإعلام…).
وعلى ضوء هذه الشهادات، وكثير من الإفادات المتناثرة عبر عدد من المراجع بشأن الموقف الايجابي للإعلام العمومي المكتوب بالعربية، بشأن قضيا الهوية وثوابت الأمة، وتألقه الملحوظ منتصف الثمانينات، من الضروري التساؤل عن دور التيار السياسي التغريبي الذي ازداد نفوذه خلال هده الفترة في السلطة إلى بداية التسعينات، بتصفية وتفريغ المؤسسات الإعلامية (الشعب، المساء، الجمهورية…) بدعوة تأسيس سوق الإعلام الحـر والانفتاح؟!
سدنة النظام!!
هكذا تبدو الصورة للعامة في القسم الثاني من التحليل، إن سألت عن الإعلام العمومي بشقيه العربي تجد الإجابة جاهزة ”سدنة النظام”، صحيح إذا تعلق الأمر بالجانب السياسي، ومنذ أن تأسست أول صحيفة عمومية عربية ”الشعب” وكنظيرتها المفرنسة ”المجاهد”، خلقت لمدح وتمرير خطاب السلطة، والأمر هنا سيرورة وحتمية تاريخية، يتغير الرؤساء والحكام وتستمر الطبلة، كسائر الدول الشمولية، يحدث أن تتقلب وتتعايش الصحيفة العمومية، مع ما تجدد من أوضاع نصف قرن أو يزيد، تمجد على الطريقة الجزائرية وملهمتها المصرية… رئيس فجر الاستقلال، ثم تلعنه لترفع إلى مقام الألوهية الرئيس الانقلابي، وحين يتوفى هذا الأخير، ترمي عليه رماد النسيان والتهميش، ولا تذكره إلا كمستبد وديكتاتوري، لتسخر عناوينها الحمراء للرئيس الجديد وهكذا…
غير أنه في كل صورة مظلمة زوايا مضيئة، ولو بنسبية ضئيلة في أهم جانب نحسبه أهم من الجانب السياسي بما حمل من مثالب.. نعني الجانب الفكري والثقافي لعبت بعض وسائل الإعلام، سواء التابعة للحكومة أو للحزب الواحد حزب جبهة التحرير الوطني لعقود، وأهمها عقد الثمانينات الدور الذي كان يجب أن تلعبه لاسيما (الجيش، يومية الشعب، المجاهد الأسبوعي، مجلتي الوحدة والأصالة، الجمهورية) بحيث ساهمت في تشكيل رأي عام بأهمية الاصطفاف، وتبني قضايا تتعلق بهوية والشخصية الوطنية، والصمود أمام الهجمة التغريبية، التي بدت تتبدى في محاولة فرض مشروع مجتمع تغريبي.. دافعت هذه الصحف بما أستكتبت من أقلام وقامات فكرية (د.ركيبي، د.عميمور، د.أبو القاسم سعد الله، محمد الهادي الحسني، عبد الله شريط، الطاهر عدواني، عثمان شبوب، مولود قاسم، سعدي بزيان…)، والأسماء أكثر من أن تحصى وتعدّ.
وسواء كان هذا الموقف مخططا له في دوائر النظام، بين ما هو إعلام مفرنس ومعرب، في إطار إحداث توازن بين العصب الماسكة بزمام السلطة، فان الخيارات الثقافية التي ترمي إلى استعادة التراث ومقومات الشخصية الوطنية، والانعتاق من ارث الإدارة الاستعمارية التي استمرت في تسيير دواليب المؤسسات… كقضية التعريب في السبعينيات، والمصادقة على قانون الأسرة المستمد من الشريعة الإسلامية (منتصف الثمانينات)، والتصدي لممارسات التيار التغريبي في السلطة، كانت تلاقي الصدى الأكبر في الصحف العمومية، لاسيما التابعة للحزب الذي هو جزء من مؤسسات الدولة حينئذ، كما أن دراسات الباحثين (د.أبو القاسم سعد الله كنموذج) الذي كان يدعو فيها لتأسيس جامعة إسلامية بالجزائر، والتحذير من خطر مشاريع التيارات البربرية والتغريبية المتطرفة على مستقبل الأمة، في المجال التعليمي والثقافي والجامعي..) والتي أثارت جدلا عند ”التيار الانفصالي”، (مقال الحاج ديكارت بجريدة الشعب)… كان حضنها الأول وفضائها المميز للنشر هو يومية ”الشـعب” التي كانت مغمورة نسبيا خلال السبعينيات شكلا ومضمونا، تحولت في فترة ما لاسيما في عقد الثمانينات إلى مدرسة إعلامية أصيلة، بمعية جريدة الجمهورية بالغرب الجزائري ففي نهاية عقد الثمانينيات (87…90) بلغت الصحيفتان شأوا كبيرا مضمونا وإخراجا حتى وصل سحب 150 لكل منهما…
أمام النظرة التزمتية وعمليات الإقصاء، ضد الحرف العربي بذاته، ومعاداة الإعلام العمومي العربي، بعد أن أخد دوره في استنهاض الهمم والدفاع عن الثوابت يتزايد، والذي تزامن مع صعود التيار التغريبي بشقيه السياسي والإعلامي، والعسكري لمقاليد السلطة مع تسعينات القرن الماضي، بدأت عمليات التضييق والإقصاء ضد المطبوعات العمومية بدعوى الإصلاح، فالمرسوم التنفيذي رقم 242/90 المتعلق بحل المؤسسات الإعلامية العمومية جرد صحيفتي الشعب والجمهورية، من كل وسائل عملها وفصلها عن مطابعها الخاصة، مما تسبب في هجرة صحفييها إلى صحف أخرى… وفي هذا السياق يقول محمد زغيبة مدير الشعب الأسبق »الشعب أخدت منها المطبعة، وهي ملك لها نضير استثماراتها، وتركت كعنوان يبحث عمن يطبعه«، والشعب دفعت ثمن خيارها عن حتمية، مواصلة المسار الديمقراطي، ونقدها لسياسة الانقلابيين التغريبيين في 1992، وأخذت على بوضياف مجاراتهم.. فيما أبقى وضع صحيفة المجاهد على حاله دون فصله عن المطبعة!!
وهنا يتساءل محمد زتيلي مراسل الصحيفة سابقا من قسنطينة (كيف أن الحكومات المتعاقبة قصرت في الحفاظ على جريدة كبرى بأقلامها، وتجربتها وسمعتها، ومهنيتها كجريدة عمومية تخدم الرأي العمومي للدفاع عن مصالح كبرى في وقت كانت هده المهمة واجب دولة فقزمتها وفتحت المجال لمصالح إعلامية وتجارية وسياسوية كي تحتل الساحة وتهيمن بخطاباتها التهديمية على الرأي العام..)-الشعب 10/12/2017.
أرقام التميّز والانتشار
المتابع لمسيرة الصحف العمومية سنوات (1987-1988-1989-1990) يلاحظ تميزها وتفوقها الإعلامي (بصرف النظر عن موالاتها للسلطة رغم أن المفروض أنها تقدم خدمة عمومية.. وهذا موضوع آخر)، إحدى دلائل ذالك رقم السحب الذي وصلته، حيث كانت تسحب كل من المساء والشعب 80.000 ألف نسخة كلا على حدى، وكانت الجمهورية والسلام، تسحبان 50.000 كل على حدى أيضا، أما النصر فوصل سحبها إلى 100.000 ألف نسخة يوميا، هذا حسب الإحصائيات والبيانات التي تقدم بها زهير احدادن، في كتابه الصحافة المكتوبة في الجزائر، ص159، أما مدير الشعب الأسبق محمد بن زغيبة فقد قدم في حوار مطول أجرته معه أسبوعية المحقق بتاريخ 23/02/2008، المعطيات الآتية: “الشعب كانت تسحب 150 ألف نسخة، متجاوزة بذالك يومية المجاهد، كما وصل سحب المساء إلى 130 ألف نسخة في سنوات 1988 و1989”، وبدوره أعطى علي ذراع مدير المساء الأسبق يوم كان مولود حمروش رئيسا للحكومة، في حوار مع الخبر الأسبوعي نشر في العدد الصادر بين 10 و16 ماي 2008، الرقم 200 ألف كمعدل يومي لسحب المساء.
الرجـل الإعلامي المريض!
شهد الإعلام العمومي المعرب، بفعل فاعل، ولمدة تزيد عن عشرين عاما، تراجعا وتململا ورداءة، لدرجة أصبح وصف ”الرجل الإعلامي المريض” أحق بـه، حيث عملت السلطة على إذلاله واستحقاره!! ومن شدة عـدم اهتمامها بمصيره ودوره، تم إقصاؤه من التأثير في مشهد الأحداث، إذ فتحت المجال في سنين الفوضى الأمنية 92-98 واحتضنت صحف التيار التغريبي المفرنسة، للعب دور “قـذر” في نجاح السياسة الأمنية القائمة على الاستئصال، وارتكاب التجاوزات الخطيرة بحق المدنيين… حتى أن هذا الدور الخطير، اعتبرت السلطة الحاكمة، الإعلام العمومي أحقر من أن يلعبه، أو التعويل على نجاحه فيه لمجرد أنه حامل الحرف العربي، وبخور الأصولية!!
قبل سنوات قليلة حاول الإعلام المنكوب والمنكود، الاستفاقة المتأخرة والنهوض مجددا، ولكن ظلت كثير من القيود تكّبله، وهذا ما أدى بكثير من المتابعين بدعوة الدولة إلى التخلص من هذا الإرث الثقيل، يقول عبدو بن زيان ”لدينا صحفيون ممتازون ولكن الإرادة السياسية غائبة، لا أفهم لماذا تصر الدولة على إبقاء جرائد عمومية لا أحد يقرؤها، وتشتري لها الورق بمبالغ باهظة من الخارج وتدفع رواتب عمالها، والغريب أن من يدفع ليس الدولة وإنما الموطنون هو الذين يمولون هده الجرائد المفلسة..) الخبر الأسبوعي 12/05/2006.
واليوم يرى الخبراء والأكادميون، ضرورة فتح نقاش وطني، حول الصحافة العمومية المكتوبة بشكل خاص والإعلام العمومي بشكل عام ”يجب أن يعلم أصحاب القرار في هذا البلد أن ممارسات الإعلام العمومي تتعارض مع قوانين الجمهورية، ومبدأ الخدمة العمومية وأخلاقيات المهنة، وأن المجتمع له الحق في مطالبة السلطات العمومية بالأموال التي تصرف من الخزينة العمومية لتلميع صورة من هم في السلطة عوض أداء خدمة عمومية”.. الخبر20/10/2017.
ولسعد بوعقبة كاتب عمود ” نقطة نظام ”، حجاج كثير في مسألة دور قطاع الإعلام العمومي المكتوب خلال السنوات الأخيرة، وقد رافع كثيرا من أجل تقويمه لأداء خدمة عمومية حقيقية، بعيدا عن التزلف للنظام وأزلام النظام…، “معضلة الصحافة العمومية ليست في التنظيم وإعادة التنظيم… بل المشكلة تكمن أساسا في ضرورة كف يد الحكومة، عن هذا القطاع وتحويله من قطاع حكومي إلى قطاع عمومي… أي أنه لا يمكن إصلاح القطاع وتحسين عمله، إلا إذا أصبح قطاعا عموميا وابتعد عن التسيير الإداري الحكومي لهدا القطاع بواسطة الهاتف سواء قطاع الصحافة المكتوبة أو السمعي البصري… يجب تحريره من سيطرة الحكومة حيث تحولت المؤسسات الإعلامية العمومية، إلى مؤسسات دعائية مبتذلة للحكومة ولرداءة الأداء الحكومي العام… أول ما يمكن إصلاحه هو إخراج مسألة تعيين وإنهاء مهام المسئولين عن هذه المؤسسات من دائرة الحكومة.. كان يشكل مجلس إدارة لمؤسسات القطاع، يعين أعضاء هذا المجلس بالتساوي بين الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي ومجموعة العاملين في القطاع… ويجب أن يخضع تسيير هده المؤسسات إلى درجة عالية من النزاهة والشفافية والمهنية، بعيدا عن الزبائنية والجهوية… إن إعادة هيكلة القطاع الإعلام العمومي إذ لم تأخذ بعين الاعتبار مسألة الكفاءة والحرية فلن تكون لهده الهيكلة أي فائدة وستكون مضيعة للوقت والجهد والمال من جديد”.. الخبر 12/04/2017.
ولم يتخلف الأستاذ والكاتب د.عمر بن قينة الذي ظل ردحا من الزمن كاتبا وإعلاميا بقلعة ”الشعب” عن نقد الإعلام العمومي المكتوب بأشد العبارات، وهو يرى أنه أقصي بداية التسعينات وحرم مع بعض الأقلام من الكتابة في الصحف العمومية، يقول في مقال نشره بإحدى اليوميات القطرية سنة 2007 (..إخفاق الإعلام العمومي المكتوب مدوي في إقناع المواطن الجزائري موضع إجماع السلطة فضلا عن الخصوم، لأنه إعلام تطبيل وتزمير، يهرول بعيدا عن الموضوعية التي تقدم الحقائق وتعالجها، بمهنية ومسؤولية ضمير حي وصدق في التقديم والتحليل ونسجل هنا ضيق الرئيس بوتفليقة نفسه بهذا الإعلام الذي انتقده بعنف…).
غير أن بعض الكتاب والمنتسبين لقطاع الصحافة المكتوبة، يرون العكس ويعتقدون رغم رداءة أداء هذا القطاع أنه يقدم خدمة عمومية، ويصرون في كل مناسبة على التميز والدور الذي يؤديه، رغم أنهم يعلمون في قــرارة أنفسهم أن نظرتهم غير مؤسسة على حقائق (ضعف أرقام السحب، انعدام المقروئية، تدني سعر النسخة 10 دج، كتاب هذه الصحف لا يقرؤونها، عدم التجديد في المواضيع مضمونا وأسلوبا.. السلطة تعتمد بشكل أوسع في متابعتها للمشهد، وقراءتها لاتجاهات الرأي العام، على ما تنشره الصحف المستقلة خاصة الخبر والوطن..) بل وجهة نظرهم، لا تعدو سوى مجرد تسويق ظرفي وبناء على معطيات خاطئة..
ترد صفية بلغربي وهي إعلامية متقاعدة من جريدة النصر، عن ما يوصف عادة برداءة الصحافة العمومية بالقول: ”…الصحافة العمومية كونت أسماء كبيرة تعمل في القطاع الخاص… ولا يمكن أن توصف بالرديئة توجد تحقيقات في وسائل عمومية مثل النصر، لم تنجز في الصحافة المستقلة سواء من ناحية الجرأة والحقائق.. إن المشكلة هي الميل لمواضيع فيها إثارة وتهويل، ونحن صحافة تحترم القارئ والمهنة والمسؤولية ..”-النصر03 ماي2016.
وفي شهادته على مسار يومية الشعب قال مدير المساء بالنيابة أحمد مرابط ”…إنها مرت بما مر به على العموم الإعلام العمومي، الذي تفوق عليه الإعلام الخاص بعد الانفتاح الإعلامي، لكنه استرجع مكانته في مرحلة ثانية، لا لسبب إلا أن الإعلام العمومي ظل متمسكا بمبادئ الرسالة الإعلامية، من موضوعية واحترافية وكان لرفع الرقابة والقيود على الإعلام الجزائري قيمة مضافة لحرية التعبير، وكذا الإعلام العمومي على وجه الخصوص..”-الشعب11/12/2017.
ألا يعلم هؤلاء أنه ليس بمقدور صحفي في ”النصر” مثلا، أن ينشر كلمة واحدة بحق مدير مدرسة ابتدائية يسطو على وجبات التلاميذ، إذا رفع سي ”المـير” أو حضرة مدير التربية، هاتفه لمدير الصحيفة… وهل كان باستطاعة صحفي قديم، على أبواب التقاعد بالقسم الرياضي بجريدتي الشعب أو المساء الخوض في خبايا وكواليس وطرق تسيير الاتحادية الوطنية، والرابطة المحترفة لكرة القدم خلال الأشهر الأخيرة، وما دار من جدل وصراعات لإزاحة محمد روراوة وتنصيب زطشي، ويحدث اليوم مع قرباج…
كما أظهر الإعلام العمومي المكتوب في الجزائر(حالة المعرب بالأخص)، موقفا بائسا لا يقوى على الإقناع، وعمق التحليل، خلال الحراك الاجتماعي والمهني الأخير، الذي شمل قطاعات التربية والصحة من احتجاجات وإضرابات، أرجع إلى الأرشيف القريب وابحث عن افتتاحية في الشعب أو المساء أو النصر أو الجمهورية الصورة، تقرأ فيها تنديدا أو بعبارة أدق تحليلا موضوعيا، يعبر عن خطها الافتتاحي وفقا لمقاربات شعاراتها (أن تكون حرا، يومية كل القراء…) يخص مدى دستورية القوانين والمشاريع كمشروع قانون العمل، والقوانين الأساسية الخاصة… وما يكتنفها من إجحاف وظـلم في حق فئات مهنية عريضة، على مستويات عدة.. كل ما تقـرأ عرضا لتصريحات وزير الصحة، وإعادة نشر لتهديدات الوزيرة بن غبريط في حق المضربين من الأساتذة، وتثمين لخرجات وخطابات السلطة…
لم نقرأ مثلا ولو سطرا يتساءل فيه كاتبه فيه إحدى الصحف العمومية، كيف لحكومة بإطاراتها ومؤسساتها، ترسل رجل ديني فارغ علميا، وفقير فقهيا في القضايا المهنية لعمال التربية والصحة، التوسط بين الوزارات وممثلي النقابات لوقف الإضراب والاحتجاج بدموع يتمسح بها كل حين، وعبارات يتوسل بها لمخاطبه لا أكثر.
إن المقالات النقذية في هذا السياق التي يكتبها مثلا ”رفيق وحيد” في الصفحة الرياضية بيومية الخبر يعد في مفهوم هذه المدرسة الإعلامية المحنطة التي تعيش زمنا ولىّ، تهويلا وتحريضا، يكفي أن نعثر ونكشف الفرق ببساطة في مقارنة صفحات الأحداث المحلية، في معالجة الأخبار المحلية بين صحيفة كالخـبر والوطن، وصحف القطاع العام حيث يندر في هذه الأخيرة، أن تجد هامش لحرية النقد كالحديث عن الشبهات التي تحوم حول إبرام الصفقات على المستوى المحلي، أو الحقرة التي يمارسها هذا المدير التنفيذي أو ذالك، أو سوء تسيير المرافق العمومية… كل شيء عن توزيع السكن وإصلاح شبكات المياه، وردم حفرة هنا أو هناك، والفلكلور الفارغ، وانجازات الوزارة، وخرجات المـير، فصفحات الحدث الوطني، كله ببّغاء إعلامي يردد مصرح به أو دشنه هذا المسؤول الفلاني.
صحيح أن بعضا من هذه الصحف، حاولت إحداث نقلة تقنية، على مستوى المواقع الالكترونية (النصر – الجمهورية) نظير الطبعة الورقية، كما أن بعضا منها أحدثت ملاحق كالشعب (فوروم، الدبلوماسي، الثقافي، الرياضة) ولكنه بملفات تعالج وفقا لنظرة كلاسيكية لا روح ولا دماء في مادتها الإعلامية، وتجري الكتابات والمقاربات التحليلية، في القضايا الساعة على اتجاه واحد، وفقا لمفهوم ممنوع -مسموح، خد مثلا في الملفات الدولية التي تطرحها الشعب مند سنوات وفق مقاربات وقوالب فيها نوع من التجديد وروح القراءة، لا تخرج عن القضية الفلسطينية أو الصحراوية، التنمية في إفريقيا.. ويندر أن تحدثنا ضمن القضايا المطروحة عن موضوع بالغ الأهمية كموضوع وضع الأقليات المسلمة في العالم (تركستان، الجمهوريات المستقلة عن روسيا، المسلمون في إفريقيا، إعادة النظر في علاقات الجزائر الخارجية)… ولكن حين تحركت الخارجية الجزائرية في الوقت الضائع وبهدف تسجيل موقف وفقط.. وعبرت عن إدانتها لاضطهاد مسلمي الروهينغا، فتحت الشعب وزيّنت غلافها بقضية شعب أركان المضطهد من قرن من الزمان!! (الشعب الملف الدولي 10/09/2017)، بينما نحن القراء الشباب لم نسمع بقضية الروهينقا الا عبر الصحف الأسبوعية المعلقة (البيان، رسالة الأطلس، النور..) في تسعينات القرن الماضي وكذا الإعلام الخارجي… ولو تحدثت ”الشعب” يومها عن الموضوع لعلّقت وشُنقت كما حدث لها حين أجرت حوارا مع راشد الغنوشي في 1992 فتم تعليقها لشهور…
فالنصر أبدعت مند سنوات في تقليد كراسة الثقافة… غير أنه يندر أن تجد نقاشا موسعا، وأقلام الاختلاف يسمح لها بالخوض في المعمعة، أو طرح مواضيع بجودة عالية أو العثور على أعمدة لا نقول مخالفة لوجهة نظر السلطة، فهذا خط أحــمر، بل ما يطلبه عموم القراء الذين سخر لهم هذا الإعلام!! من معرفة وثقافة وفكر، وقدرة على الإقناع وفقا ما يتطلبه فنيات العمود، وما ينشر من قصائد ونثر لا يتعدى حديث شيوخ وكهول، عن الحب والمرأة والجنس وشيء غير قليل من طلاسم السريالية… فيما يتم استبعاد وتهميش أدب الالتزام، أدب القضايا الحية في وجداننا الآني.. أين المضطهدين والمشردين في العراق بسبب الطائفية؟، أين مذابح الروس في حلب وغوطة دمشق ضد الأطفال من الشعر والقصة القصيرة والمقال الأدبي المتفرد؟…
خد مثلا صحيفة الأهرام، نراها تتقلب منذ مائة عام مع مختلف الأنظمة والحكومات، غير أنها على مستوى الثقافة والمعرفة، تلبي حاجيات كثير من القراء مثلا، الذين يختلفون مع خطها الافتتاحي بالضرورة، يمكنك أن تقلب الصفحات الأولى رأسا، الخاصة بنشاطات الرئاسة والوزارة، وما فيها من مديح ونعيق، ثم تقرأ ما تشاء، أخبار العالم العربي، التقارير الدولية التي يكتبها المراسلون، الدراسات الإستراتيجية، الصفحات المتخصصة، أعمدة لكتاب يمثلون وجهة نظر مخالفة نسبيا، صور اشتراك من وكالات الأنباء… حتى أن كثيرا مما ينشر فيها من معطيات وأرقام تعـد بنكا ومرجعا معتمدا عليها في إعداد مذكرات التخرج..
ولا يمكن القول أن صحفنا العمومية تحوزها الإمكانيات، أو نقص الكفاءات، وإلا تساءلنا عن وجهة الأموال الضخمة، التي جنتها عقدا من الزمن جريدة مثل النصر، كانت ثلاث أرباع صفحاتها إشهار، تحت إدارة – سي العربي ونوغي، خصوصا عقـد (2000-2010) ونفـس الشيء يقال والشعب تتقلب تحت سلطة الإمبراطور المحنط في الإعلام العمومي، عز الدين بوكردوس نفس السنين الطوال، بل حتى يومنا هذا تتراوح صفحات الإشهار بين ست إلى تسع صفحات يوميا، ولو أن الصحيفتين، نزعت عنها أغلال وقيود المذله والاستعباد، ووضعتا في يد محترفة أمينة على ”الرسالة الإعلامية” وقيمها الأصيلة لفعل بها العجاب، ولعاد بريقها كما كان سنوات الثمانينيات، ولكن فعل بها ما فعل عقابا على دورها الحضاري والفكري في تحريك الضمائر وشحذ الهمم…
…/…
(يتبع)
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.